الاثنين، 13 مايو 2013

ندب لن يبرأ \ آمنة عمر امغيميم





أرجو المعذرة فالموضوع طويل شيئاً ما

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ندب لن يبرأ

كنت أبلغ من العمر سبع سنوات .. و كنت تلميذة مميزة و مجتهذة في السنة الأولى ابتدائي بشهادة من معلمتي التي كانت " تحبني كثيراً" .. و كانت تعبر عن حبها لي بإرسالي في مهام سرية كان فيها خطر على حياتي .. و ياله من حب و صدق مشاعر .. كانت ترسلني في أوقات الدراسة إلى بيتها البعيد عن المدرسة ب 1000 متر .. مرة لأنها نسيت المفاتيح و مرة لأوصل سلة الخضر و مرة لأجلب لها بعضاً من ملابسها لأنها اضطرت لتغييرها لأسباب شخصية و هكذا .. أحيانا كانت تطلب مني أن أرافقها إلى المراحيض لأقف أمام الباب حتى أمنع أحداً من الدخول عليها .. بما أن المراحيض كانت بدون أقفال أو مفاتيح او أي شيء من هذا القبيل.
كانت المسافة بين المدرسة و بيت معلمتي طويلة و كلها في اتجاه واحد لكنها كانت تعج بالسيارات و الدراجات النارية و العربات .. و الجميع على عجلة من أمره قليلون أولئك الذين يحترمون قانون السير خصوصاً و أن مدينتي الصغيرة لا تتوفر على إشارات ضوئية لتنظيم السير .. بل شرطي واحد كنا نراه فقط عند خروجنا من المدرسة على الساعة السادسة مساءً..
كنت طفلة نشيطة مرحة مليئة بالحياة .. و كنت فخورة بحب معلمتي و ثقتها الكاملة بي .. لم أكن أستوعب خطورة المهمات السرية و لم أكن أخبر أحداً عنها لأن المعلمة أوصتني ألا أفعل..
عندما كنا نخرج للاستراحة بين الساعة العاشرة و الحادية عشر كانت المعلمة تكلف تلميذة من بيننا لتحرس قاعة الدرس في فترة الاستراحة .. فحتى بابها كان بدون مفتاح .. و بما أن المعلمة كانت تترك حقيبتها اليدوية على مكتبها كانت تكلف في كل مرة واحدة منا لحراسة الفصل خوفاً على ضياع حقيبتها..
كان يوم خميس .. و كان مشرقاً دافئاً .. و لم أكلف بأية مهمة سرية لخدمة معلمتي المحبوبة .. كنت أجري في ساحة المدرسة برفقة بعض الصديقات .. ألعب و ألهو و أنادي هاته و تلك .. كنت أمارس طفولتي البريئة في تلك الدقائق المعدودة بين ساعات الدراسة .. مررت من أمام الفصل الذي كانت تحرسه إحدى الرفيقات التي طلبت مني أن أحرسه لأنها تود الذهاب إلى المرحاض .. لم أمانع و لم أر هناك مانعاً من مساعدة رفيقة في موقف كهذا .. إستلمت مهمة الحراسة بكل ثقة إلى حين عودة الرفيقة .. مرت الساعات الأخيرة من الدرس كالمعتاد ثم خرجنا على الساعة السادسة متوجهات إلى بيوتنا فرحات و كأننا كنا في جهاد إجباري .. قبل أن أصل إلى منزلنا ببعض الأمتار التحقت بي إحدى الصديقات لتخبرني أن المعلمة فقدت 70 درهماً من حقيبتها و أنها تتهمني أنا بسرقتها..
لا أذكر طبيعة الإحساس الذي اجتاحني في تلك اللحظات , كل ما أذكره أنني استفقت من غيبوبة على نداءات جدتي التي كنت أعيش معها في تلك الفترة من عمري .. أرتعش كورقة يابسة تلعب بها رياح الخريف و درجة حرارتي مرتفع جداً .. أخبرت جدتي بالخبر بكلمات متقاطعة ممزوجة بشهيق و بكاء مرّ حارق .. لم أصدق .. لم أصدق أن المعلمة التي تحبني و تكلفني بمهامها السرية يمكنها أن تتهمني بشيء كهذا .. كيف و لماذا ..؟؟
أيقظتني جدتي صباح يوم الجمعة على الساعة السابعة و النصف ككل يوم .. لتصطحبني إلى المدرسة و تستفسر عن هذه التهمة التي قد تكون سبباً في فصلي من المدرسة .. كانت جدتي تمشي بخطى سريعة و كنت أحاول الالتحاق بها لكن حرارتي العالية كانت تعمي عيني و تثقل خطواتي .. وصلنا إلى المدرسة لتقابل المعلمة جدتي بوجه أحمر ملتهب مكفهر
لم أعتد رؤيته من قبل .. لم أرَ أمامي إلا مخلوقاً غاضباً ثائراً لا يقل وصفاً عن حيوانٍ مفترس جائعٍ .. لم تكثر المعلمة الكلام مع جدتي بل قالت بكل اختصار : " ابنتكم سارقة و ستدفع ثمن فعلتها " دخلت الفصل و أوصدت الباب في وجه جدتي التي عادت أدراجها و دموع الحزن تبلل برقعها..
ثلاثة أيام من العقاب و الشتم و الضرب و الإهانات .. و كلما قلت أنني لم أسرق كلما زاد غضب المعلمة و تضاعف صفعها لي .. ليصل بي الأمر إلى الاعتراف بجريمة لم أقترفها ..فقط لكي لا أعاقب و لا أضرب و لا أصفع .. لكنني لم أنجُ من إهاناتها و نظراتها القاسية .. أين حبها ..؟؟ أين ثقتها ..؟؟ أين اعتمادها علي في مهماتها السرية ..؟؟ و كيف تصورت أنني أستطيع خيانتها وأنا التي لم أفكر للحظة إخبار أحد بما كانت تكلفني به.
جدتي لم تسكت عن الأمر و لم يهن عليها حالي و وضعي المزري .. بل اضطرت إلى الذهاب عند مديرة المدرسة لإيجاد حل لهذا الموضوع .. كنت قد فقدت الأمل في استرجاع كرامتي و ظهور براءتي .. كنت شاحبة و كأنني الموت يمشي على أرض شائكة .. حرارتي دائماً مرتفعة .. وجهي شاحب .. شفتاي متشققتان .. صوتي مبحوح .. نظراتي منطفئة .. كنت أحتضر بدون شك .. جاءت مديرة المدرسة في ساعة من ساعات تلك الأيام التي لم أعد أعرف كيف ابتدأت و كيف انتهت .. بوجهها السموح الهادئ و صوتها الناعم اللطيف .. دخلت الفصل ملقية تحيتها المعتادة " السلام عليكن " .. وقفت أمامنا على منصة منحدرة كانت متواجدة دائماً أمام السبورة لمساعدة المعلمين ذوي القامة القصيرة و حتى نحن التلميذات للوصول إلى أعلى السبورة .. و قالت كلمات لا يزال رنينها يدوي في مسامعي : " أعرف أن التلميذة "كذا" ليست سارقة .. كما أعلم أن إحداكن تعرف من هي السارقة الحقيقية .. لهذا سأعطيكن آخر فرصة للاعتراف .. إذا فعلتن سننهي الموضوع بدون مشاكل و سنعيد السبعين درهماً للمعلمة .. أما إذا لم تفعلن فسأضطر إلى فصلكن جميعاً عن الدراسة " قالت ما قالت و خرجت دون أن تلتفت..
مرّت ثلاثة أيام على " خطبة " المديرة الموجزة .. لم تصفعني بعدها المعلمة و لم تشتمني .. لم تهني و لم توجه لي أدنى كلمة .. خيم الهدوء على الفصل و ماتت الابتسامة على وجوه كل التلميذات .. انعدمت الحيوية و عمّ البؤس .. فجميعنا الآن في قفص الاتهام .. و لا أنكر أن الأمر أراحني إلى حدّ ما..
عند خروجنا من المدرسة عشية آخر يوم في الأسبوع وجدت جدتي تنتظرني أمام المدرسة على غير عادتها .. مما أربكني و أشعل نار الخوف في أحشائي .. قابلتني بدراعين مفتوحين و عانقتني عناقاً حاراً و هي تردد باكية : صغيرتي .. لم أشك يوماً في براءتك .. لأنني لم أربك على السرقة و الخيانة " .. كنت أبلغ من العمر سبع سنوات لكنني كنت أفهم أبعاد كلام جدتي كثيراً .. كنت امرأة في جسد طفلة .. لم أخن و لم أغدر معلمتي لا قبل الواقعة و لا بعدها .. علمت من جدتي أن تلميذة أخرى رأت حارسة الباب تدخل للفصل أثناء حراستها و هذا أمر ممنوع إطلاقاً حتى على من يحرس الباب .. و عندما واجهتها بما رأت ارتبكت و اختلطت عليها الأمور لتقع في شباك خيانتها .. اعترفت الرفيقة بما فعلت و الأخطر من هذا هو أنه عند استدعاء والدتها لإخبارها بما حصل قالت إنها ذات يوم وجدت بعض النقود في حقيبة ابنتها و عندما سألتها من أين لها ذلك أخبرتها انها وجدت سبعين درهما عندما كانت في طريقها إلى المدرسة.
" جاء الحق و زهق الباطل " .. نجوت من تهمة السرقة .. نجوت من الصفع و الإهانة .. نجوت حتى من المهمات السرية .. عادت لي سكينتي و براءتي و طفولتي ..
لم أعد أذكر كيف مرت السنة .. لا أذكر شيئاً على الإطلاق .. ما أذكره هو هذا الفصل المرير من أوله إلى آخره و بأدق تفاصيله .. حتى وجه المعلمة لم أعد أذكره جيداً فقد أكملت السنة معنا و طلبت الانتقال إلى مدرسة أخرى في مدينة مراكش حيث تعيش كل عائلتها .. لم أعد أذكر اسم الرفيقة السارقة أما وجهها فأذكره جيداً لأنها درست معي في السنتين الثانية و الثالثة ابتدائي .. فصل مهم من حياتي لم أعد أذكره ربما لانني رفضت التفكير فيه حتى محي من ذاكرتي كلياً .. لكن الواقعة لم تمحَ لأنها عاشت معي و لا تزال تعيش و ندوبها لم تبرأ بعد.

بقلم \ آمنة عمر امغيميم

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق