السبت، 8 يونيو 2013

03) من مذكرات مهاجر \ بقلم آمنة عمر امغيميم



نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة


من مذكرات مهاجر

_____________

كل شيء في روما التاريخية جميل و يبعث على الأمل في غدٍ أفضل .
السيارات في الشوارع متراصة بانتظام ، و كأنها طوابير عسكرية يحكمها الالتزام و الدقة لم أرَ مثل هذا الانتظام في شارع مدينتي الوحيد الذي يمتد من مدخلها إلى محطة القطار .. لا توجد إشارات ضوئية و لا علامات المرور و إن وجدت هذه الأخيرة فلا أحد ينتبه لها .. حيث ترى على امتداد الشارع سباق و مراوغة بين سيارات الأجرة ، العربات اليدوية ،الدراجات النارية و المارة منهم الأطفال و باعة السجائر و كذلك "الحمقى " الذين يتزايد عددهم بشكل مثير للاشمئزاز .. حيث لا تغيب شمس يومٍ دون الانتباه إلى وجه جديد مجهول الهوية و كأن هناك جمعية سرية متخصصة بتزويد المدينة بهذه الثروة الآدمية المعلولة ..
الحمقى في روما لا يثيرون الانتباه ،فهم يبدون أناساً عاديين .. مشاكلهم النفسية لا تنعكس على أشكالهم الخارجية . ثيابهم نظيفة يلبسون أحذية ككل البشر ، لا تجدهم يمشون في الشوارع دون مرافق .. و لا يركضون وسط الطرقات و بين السيارات .. الحمقى هنا يحظون بحياة نظيفة لديهم من يهتم بهم و يحرص على سلامتهم و رعايتهم ..
الأحمق في مدينتي الكئيبة هو مصدر فوضى و رعب ..شكله مخيف و مقرف و مثير للغثيان .. إذا نظرت إليه يصعب عليك تحديد نوعية إحساسك أهو اشمئزاز أم شفقة .. انهياراته العصبية المفاجئة تثير الفوضى في الشارع و الخوف بين الناس فغالباً ما تكون ردود فعله عنيفة فلا يفرق بين شيخ و امرأة و طفل .. ناهيك عن الأوساخ و الفضلات و التبول و التغوط أينما وجد و على مرأى من الجميع .
عندما حصلت على عملي الأول بعد تثبيت إقامتي بإيطاليا كنت أعتمد على المواصلات العمومية للذهاب للعمل .. شراء سيارة كان من المستحيلات لأن راتبي الشهري كان يكفيني فقط لأداء أجرة الغرفة و شراء بعض لوازمي الشخصية .. أما الأكل فكنت آكل في المطعم الذي كنت أعمل به كنادل عديم الخبرة ..
كان " الباص 105 " يعج بالمسافرين لدرجة الاختناق و بما أنني كنت أذهب للعمل في ساعة مبكرة جداً يكون الباص غالباً فارغاً فأحظى بمقعد خلف السائق و قرب نافذة الإغاثة التي تسمح لي بمشاهدة و تتبع عمران المنطقة و حدائقها و متاجرها ..
يقف الباص في المحطة التابعة لمحطتي لتصعد " كاتي " امرأة إيطالية قصيرة القامة محلوقة الشعر، بيضاء البشرة ، ترتدي دائما نفس الملابس لكنها ملابس دائماً نظيفة و مكوية .. قميص أبيض شفاف يظهر كل ملامح أنوثتها التي أعطاها الزمن حقها من الإهمال و سروالًا فضفاضاً يخفي ما تبقى من الإهمال تحت لونه الأسود .
تجلس " كاتي " إلى جانبي و تبدأ في سرد حكايتها بدون علامات وقف أو غيرها فتبدو الحكاية كلها جملة واحدة مطولة .تنظر إلي تارة و تنظر إلى النافذة تارة أخرى ..تبتسم و تعبس بين كلمة و كلمة .. تغمض عينيها المكتحلتين بلون أخضر فاتح ثم تفتحهما لترسل نظرات مبهمة و كأنها تبحث عن شيء في الخواء .
كاتي كانت " حمقاء " تعيش في عالم خاص بها لا تدرك من واقعها سوى الصعود إلى ذلك الباص و الجلوس إلى جانبي .. لتنزل بعد أربع محطات ملقية علي نفس التحية " تشاو " كانت كاتي مثل ذلك الهواء الخانق الذي كنت أستنشقه في زحمة الباص و اعتدت على استنشاقه حتى أصبحت أحتاجه .. فحين كانت تغيب كاتي كنت أحس بفراغ في ذلك الزمن الذي يربط محطة صعودها بمحطة نزولها .. فراغ لم أفهم طبيعته .. ألأنها كانت تؤنسني بحكايتها المملة و تلهيني عن التفكير لمدة قصيرة في صعوبة الحياة التي اخترتها بعيداً عن وطني و أهلي و صعوبة الانسجام في هذا المجتمع الذي يستهويني بوضوحه و حرياته و نظامه .. أم لأن كاتي الحمقاء كانت صورة جميلة لإنسانة فقدت عقلها لسبب من الأسباب و التي تختلف كلياً عن صورة أي أحمق يتجول في شارع مدينتي يحمل على كتفيه كيساً مثقلاً بحكايات لا يعلمها أحد و انهيارات عصبية متواصلة مرفقة بكل الألفاظ غير اللائقة ..

آمنة عمر امغيميم
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق