الأربعاء، 20 مارس 2013

قصة لحظة










استقيظت على يدها الحانية وصوتها الرخيم: "كفى نوما حان الوقت يا بني"
كنت آخر من ترك فراش النوم من أخواتي
والمنزل ممتلئ نشاطا هذا الصباح بعد عطلة الصيف
فدق الباب.. فإذا صديقي على الموعد تماما
أعدّتني الوالدة سريعا وضعتني على الكرسي المتحرك بمساعدة صديقي كالمعتاد
خرجنا من المنزل يقود بي وسط طرقات مليئة بالصغار من أسناننا
كان الجو صحوا والعليل صافيا والمنظر جميل ومبهج
إقتربنا من باب المدرسة
آه.. نسيت إخباركم أنه اليوم الأول من العام الدراسي.. لكنه أيضا كان اليوم الأول لآخر عام لي في المدارس
دخلنا الباب ووقفنا في صفوف متراصة ننتظر بيان أماكن أقسامنا
وكل أملي وترقبي أن يكون معي صديقي في نفس الفصل فذلك يعني لي آنذاك الكثير
وقد كان ما رجوت فسيدرس معي كالعام الماضي فسعدت جدا بذلك
ودخلت الصف والغمرة تغمرني بالعام الجديد واليوم الاول
مع ما أراه يعلو الزملاء من تخوف فمعلمنا هذه السنة مشهور بالحزم والقساوة كما يقولون
لكن أعجبني أنه جيد التدريس كما عنه يحكون
أقامني صاحبي بين الصف الأول والثاني وجلس في المقعد الذي من جهتي من الطاولة
فقد إعتدت أن أدرس وأنا على الكرسي المتحرك وأحمل معي طاولة صغيرة لأكتب عليها
وبينما الضوضاء تعلو القسم والكل يتداول الحديث عن العطلة ومجرياتها وكل يحكي أحداثه
إذ وقف على الباب رجل يملأ الباب طولا
رجل ليس مرباعا بل الى الطول أقرب
نحيفا
شديد الأدمة
معروق الوجه
جعد الشعر
حاد النظرة
غائر العينين
مقبول الشكل عموما
حسن الهندام
فبادره جميع التلاميذ بإلقاء التحية المعتادة باللغة الفرنسية
ثم دخل
فما إن تجاوزت قدماه الصف الأول حتى توقفت حركت رجليه أمامي
فرفعت نظري إليه.. فإذا عليه علامة استغراب قد اعتدت عليها.. لكن لم يكن سببها هذه المرة ما عهدت
وإن كان من طبعي أني أنسى.. فلا أنسى نظرته تلك.. وبطرف عينه فقط.. رافعا أصبعه.. مشيرا إلي بها تارة وإلى وراء القسم تارة
وأشاح بيده قائلا: "أرجعوه إلى الوراء"
كانت تلك آخر كلمات استطاعت أذناي استيعابها
لم أعد أسمع بعدها الا ضجيجا وصداعا.. وارتجاجا
أرى أفواها تتحرك لكن لا صوت لها
أيادي ترفع.. درس يشرح.. نشاط في القسم بادٍ لناظري أحيانا
أعي ما أراه أحيانا.. وكأني لا أبصر في أخرى
كأني سقطت في بئر عميق.. وهويت في واد سحيق
لم أدري بما حولي طول مدة الحصة إلا شيئا واحدا لا أنساه
وهو تحول صديقي معي إلى الوراء قائلا للأستاذ بأني قد أحتاج المساعدة لسقوط قلمي ونحو ذلك
لا أدري ما حل بنفسي بعدها من انطباع لم ينو الرحيل من جوانحي
بصمة صورت نفسها في كل لحظة عشتها بعد تلك اللحظة
بصمة لعلها سبب حبي للعزلة والإنفراد بشخصيتي الحقيقية
لعلها سبب خوفي من نظرات الآخر ولعلها أفقدتني بعض الثقة في نفسي
إخوتي.. وأخواتي
كم هي المواقف التي لا تعدو في ميزان الزمن لحظات موقوتة
لكنها تتمدد بأثرها وتمتد مدى حياتك في دنيا الناس
فما أنت صانع بربك وأجبني بقلبك وأنت في سن التكوين
ما أنت فاعل والأحداث والمواقف تشكل عجينة نفسك وتلون صبغة ذاتك وشخصيتك
لقد تعلمنا من نعومة أظفارنا كَتْم أفواهنا وكَبْت مشاعرنا
تمنيت لو ختمت قصتي هذه بشيئ جميل
لكن مواجهة الحقيقة أيضا شيء جميل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق